الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الجزء الخامس الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ“، أَيُّهَا النَّاسُ- بِالصَّدَقَةِ وَأَدَائِكُمُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ- أَنْ تَفْتَقِرُوا “ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ“، يَعْنِي: وَيَأْمُرُكُمْ بِمَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَرْكِ طَاعَتِهِ “ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ “ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَعِدُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْكُمْ فَحْشَاءَكُمْ، بِصَفْحِهِ لَكُمْ عَنْ عُقُوبَتِكُمْ عَلَيْهَا، فَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي تَتَصَدَّقُونَ “ وَفَضْلًا “ يَعْنِي: وَيَعِدُكُمْ أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْكُمْ مِنْ صَدَقَتِكُمْ، فَيَتَفَضَّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ عَطَايَاهُ وَيُسْبِغُ عَلَيْكُمْ فِي أَرْزَاقِكُمْ. كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اثْنَانِ مِنَ اللَّهِ، وَاثْنَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، يَقُولُ: لَا تُنْفِقْ مَالَكَ، وَأَمْسِكْهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ}، عَلَى هَذِهِ الْمَعَاصِي “ وَفَضْلًا “ فِي الرِّزْقِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا}، يَقُولُ: مَغْفِرَةً لِفَحْشَائِكُمْ، وَفَضْلًا لِفَقْرِكُمْ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً مِنِ ابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً: فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ، فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ. وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ، فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَلِيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ لِلْإِنْسَانِ مِنَ المَلَكِ لَمَّةً، وَمِنَ الشَّيْطَانِ لَمَّةً. فَاللَّمَّةُ مِنَ المَلَكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَاللَّمَّةُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ. وَتَلَا عَبْدُ اللَّهِ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} قَالَ عَمْرٌو: وَسَمِعْنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ شَيْئًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلْيَسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا أَحَسَّ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ أَوْ عَنْ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَا إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً. فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَذَلِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: “ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فَإِذَا وَجَدْتُمْ مِنْ هَذِهِ شَيْئًا فَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَجَدْتُمْ مِنْ هَذِهِ شَيْئًا فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}، قَالَ: إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً. فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ; وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ: إِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمَدَانِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً. فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إِيعَادُهُ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ: إِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ. فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ شَيْئًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَحَسَّ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ شَيْئًا فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ فِطْرٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ: فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَلِيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [268] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ وَاسِعُ الْفَضْلِ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَنْ يُعْطِيَكُمُوهُ مِنْ فَضْلِهِ وَسِعَةِ خَزَائِنِهِ “ عَلِيمٌ “ بِنَفَقَاتِكُمْ وَصَدَقَاتِكُمُ الَّتِي تُنْفِقُونَ وَتَصَدَّقُونَ بِهَا، يُحْصِيهَا لَكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهَا عِنْدَ مَقْدِمِكُمْ عَلَيْهِ فِي آخِرَتِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يُؤْتِي اللَّهُ الْإِصَابَةَ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَنْ يُؤْتَ الْإِصَابَةَ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ، “ الْحِكْمَةُ “ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، هِيَ: الْقُرْآنُ وَالْفِقْهُ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَأَمْثَالِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: الْحِكْمَةُ: الْقُرْآنُ، وَالْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، وَالْحِكْمَةُ: الْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، قَالَ: الْكِتَابُ وَالْفَهْمُ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} الْآيَةَ، قَالَ: لَيْسَتْ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَكِنَّهُ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِيَ حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى “ الْحِكْمَةِ“، الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ}، قَالَ: الْإِصَابَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: يُؤْتِي الْإِصَابَةَ مَنْ يَشَاءُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: الْكِتَابُ، يُؤْتِي إِصَابَتَهُ مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْعِلْمُ بِالدِّينِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} الْعَقْلَ فِي الدِّينِ، وَقَرَأَ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحِكْمَةُ: الْعَقْلُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: وَمَا الْحِكْمَةُ؟ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ، وَالْفِقْهُ فِيهِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: “الْحِكْمَةُ “ الْفَهْمُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: الْحِكْمَةُ: هِيَ الْفَهْمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الْخَشْيَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} الْآيَةَ، قَالَ: “الْحِكْمَةُ “ الْخَشْيَةُ، لِأَنَّ رَأْسَ كُلِّ شَيْءٍ خَشْيَةُ اللَّهِ. وَقَرَأَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. [سُورَةُ فَاطِرٍ: 28]. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ النُّبُوَّةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ}، الْآيَةَ، قَالَ: الْحِكْمَةُ: هِيَ النُّبُوَّةُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى “ الْحِكْمَةِ “- وَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ “ الْحُكْمِ “ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّهَا الْإِصَابَةُ- بِمَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَكْرِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَانَ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا الْقَائِلُونَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ دَاخِلًا فِيمَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ فَهْمٍ بِهَا وَعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ الْمُصِيبُ عَنْ فَهْمٍ مِنْهُ بِمَوَاضِعِ الصَّوَابِ فِي أُمُورِهِ مُفَهَّمًا خَاشِيًا لِلَّهِ فَقِيهًا عَالِمًا وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ أَقْسَامِهِ. لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُسَدَّدُونَ مُفَهَّمُونَ، وَمُوَفَّقُونَ لِإِصَابَةِ الصَّوَابِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، “ وَالنُّبُوَّةُ “ بَعْضُ مَعَانِي “ الْحِكْمَةِ“. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: يُؤْتِي اللَّهُ إِصَابَةَ الصَّوَابِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ ذَلِكَ فَقَدْ آتَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [269] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا يَتَّعِظُ بِمَا وَعَظَ بِهِ رَبُّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي وَعَظَ فِيهَا الْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ بِمَا وَعَظَهُمْ بِهِ وَغَيْرَهُمْ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ آيِ كِتَابِهِ فَيَذْكُرُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ فِيهَا، فَيَنْـزَجِرُ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ رَبُّهُ، وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ “ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ“، يَعْنِي: إِلَّا أُولُو الْعُقُولِ، الَّذِينَ عَقَلُوا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّالْمَوَاعِظَ غَيْرُ نَافِعَةٍ إِلَّا أُولِي الْحِجَا وَالْحُلُومِ، وَأَنَّ الذِّكْرَى غَيْرُ نَاهِيَةٍ إِلَّا أَهْلَ النَّهْيِ وَالْعُقُولِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [270] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَأَيُّ نَفَقَةٍ أَنْفَقْتُمْ- يَعْنِي أَيَّ صَدَقَةٍ تَصَدَّقْتُمْ- أَوْ أَيَّ نَذْرٍ نَذَرْتُمْ يَعْنِي “ بِالنَّذْرِ“، مَا أَوْجَبَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ تَبَرُّرًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَقَرُّبًا بِهِ إِلَيْهِ: مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَمَلِ خَيْرٍ “ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ“، أَيْ إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِعِلْمِ اللَّهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَلَكِنَّهُ يُحْصِيهِ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ جَمِيعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. فَمَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ مِنْكُمْ وَصَدَقَتُهُ وَنَذْرُهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ نَفْسِهِ، جَازَاهُ بِالَّذِي وَعَدَهُ مِنَ التَّضْعِيفِ، وَمَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَصَدَقَتُهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَنُذُورُهُ لِلشَّيْطَانِ، جَازَاهُ بِالَّذِي أَوْعَدَهُ، مِنَ العِقَابِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}، وَيُحْصِيهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. ثُمَّ أَوْعَدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُمَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ رِيَاءً وَنُذُورُهُ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ فَقَالَ: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، يَعْنِي: وَمَا لِمَنْأَنْفَقَ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَفِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَانَتْ نُذُورُهُ لِلشَّيْطَانِ وَفِي طَاعَتِهِ “ مِنْ أَنْصَارٍ“، وَهُمْ جَمْعُ “ نَصِيرٍ“، كَمَا “ الْأَشْرَافُ “ جَمْعُ “ شَرِيفٍ“. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “مِنْ أَنْصَارٍ“، مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عِقَابَهُ يَوْمئِذٍ بِقُوَّةٍ وَشِدَّةِ بَطْشٍ، وَلَا بِفِدْيَةٍ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ “ الظَّالِمَ “ هُوَ الْوَاضِعُ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْمُنْفِقَ رِيَاءَ النَّاسِ، وَالنَّاذِرَ فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ، ظَالِمًا، لِوَضْعِهِ إِنْفَاقَ مَالِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَنَذْرَهُ فِي غَيْرِ مَا لَهُ وَضَعُهُ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَكَيْفَ قَالَ: “فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ“، وَلَمْ يَقُلْ: “يَعْلَمُهُمَا“، وَقَدْ ذَكَرَ النَّذْرَ وَالنَّفَقَةَ. قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: “فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ“، لِأَنَّهُ أَرَادَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا أَنْفَقْتُمْ أَوْ نَذَرْتُمْ، فَلِذَلِكَ وَحَّدَ الْكِنَايَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ“، إِنْ تُعْلِنُوا الصَّدَقَاتِ فَتُعْطُوهَا مَنْ تَصَدَّقْتُمْ بِهَا عَلَيْهِ “ فَنِعِمَّا هِيَ“، يَقُولُ: فَنِعْمَ الشَّيْءِ هِيَ “ وَإِنْ تُخْفُوهَا“، يَقُولُ: وَإِنْ تَسْتُرُوهَا فَلَمْ تُعْلِنُوهَا “ وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ“، يَعْنِي: وَتُعْطُوهَا الْفُقَرَاءَ فِي السِّرِّ “ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ“، يَقُولُ: فَإِخْفَاؤُكُمْ إِيَّاهَا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْلَانِهَا. وَذَلِكَ فِيصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، كُلٌّ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَتِ النِّيَّةُ صَادِقَةً، وَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الصَّدَقَةَ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: كُلٌّ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَتِ النِّيَّةُ صَادِقَةً، وَالصَّدَقَةُ فِي السِّرِّ أَفْضَلُ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، فَجَعَلَ اللَّهُ صدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَابِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَصَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ: عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا، يُقَالُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: يَقُولُ: هُوَ سِوَى الزَّكَاةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: “إِنْ تَبْدُوَا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ“، إِنْ تَبْدُوَا الصَّدَقَاتِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا فُقَرَاءَهُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. قَالُوا: وَأَمَّا مَا أَعْطَى فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَكَاةٍ وَصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ، فَإِخْفَاؤُهُ أَفْضَلُ مِنْ عَلَانِيَتِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ يَقُولُ: إِنَّمَا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: كَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ يَأْمُرُ بِقَسْمِالزَّكَاةِ فِي السِّرِّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُحِبُّ أَنْ تُعْطَى فِي الْعَلَانِيَةِ يَعْنِي الزَّكَاةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ]، فَذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ زَكَاةٍ وَاجِبَةٍ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الفَرَائِضِ قَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْفَضْلَ فِي إِعْلَانِهِ وَإِظْهَارِهِ سِوَى الزَّكَاةِ الَّتِي ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا مَعَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَحُكْمُهَا فِي أَنَّ الْفَضْلَ فِي أَدَائِهَا عَلَانِيَةً، حُكْمُ سَائِرِ الْفَرَائِضِ غَيْرِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: {وَتُكَفِّرُ عَنْكُمْ} بِالتَّاءِ. وَمَنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَتُكَفِّرُ الصَّدَقَاتُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ. وَقَرَأَ آخَرُونَ: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ} بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: وَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْكُمْ بِصَدَقَاتِكُمْ، عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْدُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، {وَنُكَفِّرْ عَنْكُمْ} بِالنُّونِ وَجَزْمِ الْحَرْفِ، يَعْنِي: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ نَكْفُرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ بِمَعْنَى: مُجَازَاةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَخْفِيَّ الصَّدَقَةِ بِتَكْفِيرِ بَعْضِ سَيِّئَاتِهِ بِصَدَقَتِهِ الَّتِي أَخْفَاهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَنُكَفِّرْ عَنْكُمْ) بِالنُّونِ وَجَزْمِ الْحَرْفِ، عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُجَازِي الْمُخْفِي صَدَقَتَهُ مِنَ التَّطَوُّعِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ مِنْ صَدَقَتِهِ، بِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ. وَإِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مَجْزُومٌ عَلَى مَوْضِعِ “ الْفَاءِ “ فِي قَوْلِهِ: “فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ“. لِأَنَّ “ الْفَاءَ “ هُنَالِكَ حَلَّتْ مَحَلَّ جَوَابِ الْجَزَاءِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ اخْتَرْتَ الْجَزْمَ عَلَى النَّسَقِ عَلَى مَوْضِعِ “ الْفَاءِ“، وَتَرَكْتَ اخْتِيَارَ نَسَقِهِ عَلَى مَا بَعْدَ الْفَاءِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَفْصَحَ مِنَ الكَلَامِ فِي النَّسَقِ عَلَى جَوَابِ الْجَزَاءِ الرَّفْعُ، وَإِنَّمَا الْجَزْمُ تَجْوِيزُهُ؟. قِيلَ: اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِيُؤْذِنَ بِجَزْمِهِ أَنَّ التَّكْفِيرَ- أَعْنِيتَكْفِيرَ اللَّهِ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمُصَّدِقِ لَا مَحَالَةَ دَاخِلٌ فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُصَّدِقَ أَنْ يُجَازِيَهُ بِهِ عَلَى صَدَقَتِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا جُزِمَ، مُؤْذِنٌ بِمَا قُلْنَا لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ رُفِعَ كَانَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيمَا وَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يُجَازِيَهُ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا أَنَّهُ يُكَفِّرُ مِنْ سَيِّئَاتِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى غَيْرِ الْمُجَازَاةِ لَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ “ الْفَاءِ “ فِي جَوَابِ الْجَزَاءِ اسْتِئْنَافٌ، فَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ الْمُسْتَأْنَفِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فِي أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْجَزَاءِ، وَلِذَلِكَ مِنَ الْعِلَّةِ، اخْتَرْنَا جَزْمَ “ نُكَفِّرْ “ عَطْفًا بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَقِرَاءَتُهُ بِالنُّونِ. فَإِنْ قَالَ قَائِل: وَمَا وَجْهُ دُخُولِ “ مِنْ “ فِي قَوْلِهِ: “وَنُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ “ قِيلَ: وَجْهُ دُخُولِهَا فِي ذَلِكَ بِمَعْنَى: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ مَا نَشَاءُ تَكْفِيرَهُ مِنْهَا دُونَ جَمِيعِهَا، لِيَكُونَ الْعِبَادُ عَلَى وَجَلٍ مِنَ اللَّهِ فَلَا يَتَّكِلُوا عَلَى وَعْدِهِ مَا وَعَدَ عَلَى الصَّدَقَاتِ الَّتِي يُخْفِيهَا الْمُتَصَدِّقُ فَيَجْتَرِئُوا عَلَى حُدُودِهِ وَمَعَاصِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَى “ مِنْ “ الْإِسْقَاطُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَتَأَوَّلُ مَعْنَى ذَلِكَ: وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [271] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ “ فِي صَدَقَاتِكُمْ، مِنْ إِخْفَائِهَا، وَإِعْلَانٍ وَإِسْرَارٍ بِهَا وَجِهَارٍ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ “ خَبِيرٌ “ يَعْنِي بِذَلِكَ ذُو خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ بِجَمِيعِهِ مُحِيطٌ، وَلِكُلِّهِ مُحْصٍ عَلَى أَهْلِهِ، حَتَّى يُوَفِّيَهُمْ ثَوَابَ جَمِيعِهِ، وَجَزَاءَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [272] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: لَيْسَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ هُدَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَتَمْنَعُهُمْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، وَلَا تُعْطِيهِمْ مِنْهَا لِيَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَاجَةً مِنْهُمْ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُوَفِّقُهُمْ لَهُ، فَلَا تَمْنَعْهُمُ الصَّدَقَةَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَنَـزَلَتْ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِم). حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا لَا يَرْضَخُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَنَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ أَنْ يَرْضَخُوا لِقَرَابَاتِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، حَتَّى نَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا لَا يَرْضَخُونَ لِأَنْسِبَائِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَنَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فَرُخِّصَ لَهُمْ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ أَنْسِبَاءٌ وَقَرَابَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَيُرِيدُونَهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا، فَنَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}.. “ الْآيَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّ اللَّهِ قَالُوا: أَنَتَصَدَّقُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَنْ أَهْلِ دِينِنَا؟ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ مِنَ المُشْرِكِينَ قَرَابَةٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، فَلَا يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِي!! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الْآيَةَ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}، أَمَّا “ {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، فَيَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا “ النَّفَقَةُ “ فَبَيَّنَ أَهْلَهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقَمِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ [عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَلَمَّا كَثُرَ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَتَصَدَّقُوا إِلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُم). فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، مُبِيحَةً لِلصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ). كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، قَالَ: هُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ، فَمَا لَكَ وَلِهَذَا تُؤْذِيهِ وَتَمُنُّ عَلَيْهِ؟ إِنَّمَا نَفَقَتُكَ لِنَفْسِكَ وَابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَجْزِيكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [273] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فَبَيَانٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْسَبِيلِ النَّفَقَةِ وَوَجْهِهَا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ تُنْفِقُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. “ وَاللَّامُ “ الَّتِي فِي “ الْفُقَرَاءِ “ مَرْدُودَةٌ عَلَى مَوْضِعِ “ اللَّامِ “ فِي “ فَلِأَنْفُسِكُمْ “ كَأَنَّهُ قَالَ: “وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ “- يَعْنِي بِهِ: وَمَا تَتَصَدَّقُوا بِهِ مِنْ مَالٍ فَلِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَلَمَّا اعْتُرِضَ فِي الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: “فَلِأَنْفُسِكُمْ“، فَأَدْخَلَ “ الْفَاءَ “ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْجَزَاءِ فِيهِ، تُرِكَتْ إِعَادَتُهَا فِي قَوْلِهِ: “لِلْفُقَرَاءِ“، إِذْ كَانَ الْكَلَامُ مَفْهُومًا مَعْنَاهُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}، أَمَّا: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، فَيَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا “ النَّفَقَةُ “ فَبَيَّنَ أَهْلَهَا، فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ عَامَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الفُقَرَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، مُهَاجِرِي قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَوْلُهُ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّىِّ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: الَّذِينَ جَعَلَهُمْ جِهَادُهُمْ عَدُوَّهُمْ يَحْصُرُونَ أَنْفُسَهُمْ فَيَحْبِسُونَهَا عَنِ التَّصَرُّفِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَصَرُّفًا. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى “ الْإِحْصَارِ“، تَصْيِيرُ الرَّجُلِ الْمَحْصَرِ بِمَرَضِهِ أَوْ فَاقَتِهِ أَوْ جِهَادِهِ عَدُوَّهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِلَلِهِ، إِلَى حَالَةٍ يَحْبِسُ نَفْسَهُ فِيهَا عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَسْبَابِهِ، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: حَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْغَزْوِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: كَانَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا كُفْرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَخْرُجَ يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، إِذَا خَرَجَ خَرَجَ فِي كُفْرٍ وَقِيلَ: كَانَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا حَرْبًا عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ، وَكَانُوا لَا يَتَوَجَّهُونَ جِهَةً إِلَّا لَهُمْ فِيهَا عَدُوٌّ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ، كَانُوا هَهُنَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: الَّذِينَ أَحْصَرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَمَنَعُوهُمُ التَّصَرُّفَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، حَصَرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ السُّدِّيُّ، لَكَانَ الْكَلَامُ: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ حُصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ “ أُحْصِرُوا“، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ العَدُوِّ الَّذِي صَيَّرَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ إِلَى الْحَالِ الَّتِي حَبَسُوا-وَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- أَنْفُسَهُمْ، لَا أَنَّ الْعَدُوَّ هُمْ كَانُوا الحابِسِيهِمْ. وَإِنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ حَبَسَهُ الْعَدُوُّ: “حَصَرَهُ الْعَدُوُّ“، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الْمُحْبَسُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، قِيلَ: “أَحْصَرَهُ خَوْفُ الْعَدُوِّ“.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَا يَسْتَطِيعُونَ تَقَلُّبًا فِي الْأَرْضِ، وَسَفَرًا فِي الْبِلَادِ، ابْتِغَاءَ الْمَعَاشِ وَطَلَبَ الْمَكَاسِبِ، فَيَسْتَغْنُوا عَنِ الصَّدَقَاتِ، رَهْبَةَ الْعَدُوِّ وَخَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ. كَمَا:- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْعَدُوِّ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تِجَارَةً. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}، يَعْنِي التِّجَارَةَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلُهُ {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}، كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بِأَمْرِهِمْ وَحَالِهِمْ “ أَغْنِيَاءَ “ مِنْ تَعَفُّفِهِمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَرْكِهِمُ التَّعَرُّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، صَبْرًا مِنْهُمْ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. كَمَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ}، يَقُولُ: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “مِنَ التَّعَفُّفِ“، مِنْ تَرْكِ مَسْأَلَةِ النَّاسِ. وَهُوَ “ التَّفَعُّلُ “ مِنِ “ الْعِفَّةِ “ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الشَّيْءِ، تَرْكُهُ، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: فَعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ *** يَعْنِي بَرِئَ وَتَجَنَّبَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: “تَعْرِفُهُمْ “ يَا مُحَمَّدُ “ بِسِيمَاهُمْ“، يَعْنِي بِعَلَامَتِهِمْ وَآثَارِهِمْ، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [سُورَةُ الْفَتْحِ: 29]، هَذِهِ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: “بِسِيمَائِهِمْ “ فَيَمُدُّهَا. وَأَمَّا ثَقِيفٌ وَبَعْضُ أَسَدٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: “بِسِيمْيِائِهِمْ“؛ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: غُـلامٌ رَمَـاهُ اللَّـهُ بالحُسْـنِ يَافِعًـا *** لَـهُ سِـيمِيَاءٌ لَا تَشُـقُّ عَـلَى البَصَـرْ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي “ السِّيمَا “ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهَا لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ التَّخَشُّعُ وَالتَّوَاضُعُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} قَالَ: التَّخَشُّعُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ لَيْثٍ، قَالَ: كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: هُوَ التَّخَشُّعُ. وَقَالَ آخَرُونَ يَعْنِي بِذَلِكَ: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَا الْفَقْرِ وَجَهْدِ الْحَاجَةِ فِي وُجُوهِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، بِسِيمَا الْفَقْرِ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، يَقُولُ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمُ الْجَهْدَ مِنَ الحَاجَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَعْرِفُهُمْ بِرَثَاثَةِ ثِيَابِهِمْ. وَقَالُوا: الْجُوعُ خَفِيٌّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} قَالَ: السِّيمَا: رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ، وَالْجُوعُ خَفِيَ عَلَى النَّاسِ، وَلَمْ تَسْتَطِعِ الثِّيَابُ الَّتِي يَخْرُجُونَ فِيهَا [أَنْ] تَخْفَى عَلَى النَّاسِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَعْرِفُهُمْ بِعَلَامَاتِهِمْ وَآثَارِ الْحَاجَةِ فِيهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكُ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ وَالْآثَارَ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ بِالْعِيَانِ، فَيَعْرِفُهُمْ وَأَصْحَابُهُ بِهَا، كَمَا يُدْرَكُ الْمَرِيضُ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَرِيضٌ بِالْمُعَايَنَةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ السِّيمَا كَانَتْ تَخَشُّعًا مِنْهُمْ، وَأَنْ تَكُونَ كَانَتْ أَثَرَ الْحَاجَةِ وَالضُّرِّ، وَأَنْ تَكُونَ كَانَتْ رَثَاثَةَ الثِّيَابِ، وَأَنْ تَكُونَ كَانَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تُدْرَكُعَلَامَاتُ الْحَاجَةِ وَآثَارُ الضُّرِّ فِي الْإِنْسَانِ، وَيُعْلَمُ أَنَّهَا مِنَ الحَاجَةِ وَالضُّرِّ، بِالْمُعَايَنَةِ دُونَ الْوَصْفِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرِيضَ قَدْ يَصِيرُ بِهِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ مَرَضِهِ مِنَ المَرَضِ، نَظِيرُ آثَارِ الْمَجْهُودِ مِنَ الفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، وَقَدْ يَلْبَسُ الْغَنِيُّ ذُو الْمَالِ الْكَثِيرِ الثِّيَابَ الرَّثَّةَ، فَيَتَزَيَّى بِزِيِّ أَهْلِ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَلَالَةٌ بِالصِّفَةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُخْتَلٌّ ذُو فَاقَةٍ. وَإِنَّمَا يُدْرَى ذَلِكَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ بِسِيمَاهُ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ نَظِيرَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مَرِيضٌ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، دُونَ وَصْفِهِ بِصِفَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يُقَالُ: “قَدْ أَلْحَفَ السَّائِلُ فِي مَسْأَلَتِهِ“، إِذَا أَلَحَّ “ فَهُوَ يُلْحِفُ فِيهَا إِلْحَافًا“. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَسْأَلُونَ النَّاسَ غَيْرَ إِلْحَافٍ؟ قِيلَ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ إِلْحَافًا أَوْ غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهَّلَ تَعَفُّفٍ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يُعَرَفُونَ بِسِيمَاهُمْ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ شَأْنِهِمْ، لَمْ تَكُنْ صِفَتُهُمُ التَّعَفُّفَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِلْمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْعَلَامَةِ حَاجَةٌ، وَكَانَتِ الْمَسْأَلَةُ الظَّاهِرَةُ تُنْبِئُ عَنْ حَالِهِمْ وَأَمْرِهِمْ. وَفِي الْخَبَرِ الَّذِي:- حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ حِصْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: (أَعْوَزْنَا مَرَّةً فَقِيلَ لِي: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتَهُ! فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ مُعْنِقًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا وَاجَهَنِي بِهِ: “مَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَأَلَنَا لَمْ نَدَّخِرْ عَنْهُ شَيْئًا نَجِدُهُ“. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي، فَقُلْتُ: أَلَا أَسْتَعِفُّ فَيُعِفَّنِي اللَّهُ ! فَرَجَعْتُ، فَمَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَمَرٍ حَاجَةً، حَتَّى مَالَتْ عَلَيْنَا الدُّنْيَا فَغَرَّقَتْنَا، إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّه). الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ التَّعَفُّفَ مَعْنَى يَنْفِي مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ مِنَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالتَّعَفُّفِ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْمَسْأَلَةِ إِلْحَافًا أَوْ غَيْرَ إِلْحَافٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، وَهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا أَوْ غَيْرَ إِلْحَافٍ. قِيلَ لَهُ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ، وَعَرَّفَ عِبَادَهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ مَسْأَلَةٍ بِحَالٍ بِقَوْلِهِ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعَرَفُونَ بِالسِّيمَا- زَادَ عِبَادَهُ إِبَانَةً لِأَمْرِهِمْ، وَحُسْنَ ثَنَاءٍ عَلَيْهِمْ، بِنَفْيِ الشَّرَهِ وَالضَّرَاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمُلِحِّينَ مِنَ السُّؤَّالِ، عَنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ يَقُولُ: ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: “قَلَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ فُلَانٍ “! وَلَعَلَّهُ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ أَحَدًا وَلَا نَظِيرًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى الْإِلْحَافِ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، قَالَ: لَا يُلْحِفُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “لَا {يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، قَالَ: هُوَ الَّذِي يُلِحُّ فِي الْمَسْأَلَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْغَنِيَّ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْغَنِيَّ الْفَاحِشَ الْبَذِىءَ السَّائِلَ الْمُلْحِف» قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلًا وَقَالًا وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَال). فَإِذَا شِئْتَ رَأَيْتَهُ فِي قِيلٍ وَقَالٍ يَوْمَهُ أَجْمَعَ وَصَدْرَ لَيْلَتِهِ، حَتَّى يُلْقَى جِيفَةً عَلَى فِرَاشِهِ، لَا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مِنْ نَهَارِهِ وَلَا لَيْلَتِهِ نَصِيبًا. وَإِذَا شِئْتَ رَأَيْتَهُ ذَا مَالٍ[يُنْفِقُهُ] فِي شَهْوَتِهِ وَلَذَّاتِهِ وَمَلَاعِبِهِ وَيَعْدِلُهُ عَنْ حَقِّ اللَّهِ، فَذَلِكَ إِضَاعَةُ الْمَالِ، وَإِذَا شِئْتَ رَأَيْتَهُ بَاسِطًا ذِرَاعَيْهِ، يَسْأَلُ النَّاسَ فِي كَفَّيْهِ، فَإِذَا أُعْطِيَ أَفْرَطَ فِي مَدْحِهِمْ، وَإِنْ مُنِعَ أَفْرَطَ فِي ذَمِّهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [274] [قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ]: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَابِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ غَافِقٍ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْخَيْلِ مَرْبُوطَةٍ بَيْنَ الْبَرَاذِينَ وَالْهُجُنِ. فَيَقُولُ: أَهْلُ هَذِهِ- يَعْنِي الْخَيْلَ- مِنَ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ قَوْمًا أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْأَسْفَلُونَ. قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِلَّا مَنْ؟ قَالَ: الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْأَسْفَلُونَ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِلَّا مَنْ؟ قَالَ: الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْأَسْفَلُونَ. قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِلَّا مَنْ؟ حَتَّى خَشَوْا أَنْ تَكُونَ قَدْ مَضَتْ فَلَيْسَ لَهَا رَدٌّ، حَتَّى قَالَ: “إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَهَكَذَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَكَذَا خَلْفَهُ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [قَالَ]: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَ وَارْتَضَى، فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إِمْلَاقٍ وَلَا تَبْذِيرٍ وَلَا فَسَاد). وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، كَانَ مِمَّا يُعْمَلَ بِهِ قَبِلَ نُـزُولِ مَا فِي “ سُورَةِ بَرَاءَةٍ “ مِنْ تَفْصِيلِ الزَّكَوَاتِ، فَلَمَّا نَـزَلَتْ “ بَرَاءَةٌ“، قُصِروا عَلَيْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فَكَانَ هَذَا يُعْمَلُ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَنْـزِلَ “ بَرَاءَةٌ“، فَلَمَّا نَـزَلَتْ “ بَرَاءَةٌ “ بِفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلِهَا انْتَهَتِ الصَّدَقَاتُ إِلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: الَّذِينَ يُرْبُونَ. وَ" الْإِرْبَاءُ " الزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ مِنْهُ: (أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ)، إِذَا زَادَ عَلَيْهِ، " يُرَبِي إِرْبَاءً"، وَالزِّيَادَةُ هِيَ "الرِّبَا تَعْرِيفُهُ"، "وَرَبَا الشَّيْءُ"، إِذَا زَادَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَعَظُمَ، " فَهُوَ يَرْبُو رَبْوًا". وَإِنَّمَا قِيلَ لِلرَّابِيَةِ [رَابِيَةٌ]، لِزِيَادَتِهَا فِي الْعِظَمِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى مَا اسْتَوَى مِنَ الْأَرْضِ مِمَّا حَوْلَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: "رَبَا يَرْبُو". وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ: (فُلَانٌ فِي رَبَاوَةِ قَوْمِهِ)، يُرَادُ أَنَّهُ فِي رِفْعَةٍ وَشَرَفٍ مِنْهُمْ، فَأَصِلُ "الرِّبَا"، الْإِنَافَةُ وَالزِّيَادَةُ، ثُمَّ يُقَالُ: (أَرْبَى فَلَان) أَيْ أَنَافَ [مَالَهُ حِينَ] صَيَّرَهُ زَائِدًا. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُرْبِي: (مُرْبٍ)، لِتَضْعِيفِهِ الْمَالَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى غَرِيمِهِ حَالًا أَوْ لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ فِيهِ لِسَبَبِ الْأَجَلِ الَّذِي يُؤَخِّرُهُ إِلَيْهِ فَيَزِيدُهُ إِلَى أَجَلِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ حَلِّ دَيْنِهِ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}. [آلِ عِمْرَانَ: 131]. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ فِيالرِّبَا الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَقُولُ: لَكَ كَذَا وَكَذَا وَتُؤَخِّرُ عَنِّي! فَيُؤَخِّرُ عَنْهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّرِبَا أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: يَبِيعُ الرَّجُلُ الْبَيْعَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ صَاحِبِهِ قَضَاءٌ، زَادَهُ وَأَخَّرَ عَنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: الَّذِينَ يُرْبُونَ الرِّبَا الَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ فِي الدُّنْيَا "لَا يَقُومُون" فِي الْآخِرَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: يَتَخَبَّلُهُ الشَّيْطَانُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي يَخْنُقُهُ فَيَصْرَعُه " مِنَ الْمَسِّ"، يَعْنِي: مِنَ الْجُنُونِ. وَبِمِثْلِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي أَكْلِ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: (خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ)، وَقَرَأَ: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. الْآيَةَ، قَالَ: يُبْعَثُ آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ}، الْآيَةَ، وَتِلْكَعَلَّامَةُ أَهَّلِ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بُعِثُوا وَبِهِمْ خَبَلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} " قَالَ: هُوَ التَّخَبُّلُ الَّذِي يَتَخَبَّلُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْجُنُونِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، قَالَ: يَبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِهِمْ خَبَلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: (لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة). حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، قَالَ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَأْكُلُ الرِّبَا، بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَخَبِّطًا، كَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، يَعْنِي: مِنَ الْجُنُونِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. قَالَ: هَذَا مَثَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ النَّاسِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يُخْنَقُ مِنَ النَّاسِ، كَأَنَّهُ خُنِقَ، كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، يَتَخَبَّلُهُ مِنْ مَسِّهِ إِيَّاهُ. يُقَالُ مِنْهُ: (قَدْ مُسَّ الرَّجُلُ وَأُلْقِ، فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَمَأْلُوقٌ)، كُلُّ ذَلِكَ إِذَا أَلَمَّ بِهِ اللَّمَمُ فَجُنَّ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الْأَعْرَافِ: 201]، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وَكَأَنَّمَا *** أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَفَرَأَيْتَمَنْ عَمِلَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الرِّبَا فِي تِجَارَتِهِ وَلَمْ يَأْكُلْهُ، أَيَسْتَحَقُّ هَذَا الْوَعِيدَ مِنَ اللَّهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الرِّبَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلُ، إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ يَوْمَ نَزَلَتْ، كَانَتْ طُعْمَتُهُمْ وَمَأْكَلُهُمْ مِنَ الرِّبَا، فَذَكَرَهُمْ بِصِفَتِهِمْ، مُعَظِّمًا بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَمَرَ الرِّبَا، وَمُقَبِّحًا إِلَيْهِمُ الْحَالَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا فِي مَطَاعِمِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ] الْآيَةَ، مَا يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ كَانَ لِكُلِّ مَعَانِي الرِّبَا، وَأَنَّ سَوَاءً الْعَمَلُ بِهِ وَأَكْلُهُ وَأَخْذُهُ وَإِعْطَاؤُهُ، كَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: (لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ إِذَا عَلِمُوا بِهِ)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِ "ذَلِك" جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ذَلِكَ الَّذِي وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ كَقِيَامِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ مِنَ الْجُنُونِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبْحِ حَالِهِمْ وَوَحْشَةِ قِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَسُوءِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ وَيَفْتَرُونَ وَيَقُولُونَ: (إِنَّمَا الْبَيْعُ "الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِه" مِثْلُ الرِّبَا". وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنَ الرِّبَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ إِذَا حَلَّ مَالُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ، يَقُولُ الْغَرِيمُ لِغَرِيمِ الْحَقِّ: (زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي مَالِكَ". فَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ: (هَذَا رِبًا لَا يَحِلُّ". فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ قَالَا " سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحِلِّ الْمَالِ"! فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي قَيْلِهِمْ فَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [275] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ " وَحَرَّمَ الرِّبَا"، يَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يُزَادُ رَبُّ الْمَالِ بِسَبَبِ زِيَادَتِهِ غَرِيمَهُ فِي الْأَجَلِ، وَتَأْخِيرِهِ دَيْنَهُ عَلَيْهِ. يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَيْسَتِ الزِّيَادَتَانِ اللَّتَانِ إِحْدَاهُمَا مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ وَالْأُخْرَى مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ سَوَاءً. وَذَلِكَ أَنِّي حَرَّمْتُ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ وَأَحْلَلْتُ الْأُخْرَى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ الَّتِي يَبِيعُهَا، فَيَسْتَفْضِلُ فَضْلَهَا. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَيْسَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ نَظِيرَ الزِّيَادَةِ مِنْ وَجْهِ الرِّبَا، لِأَنِّي أَحْلَلْتُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمْتُ الرِّبَا، وَالْأَمْرُ أَمْرِي وَالْخَلْقُ خَلْقِي، أَقْضِي فِيهِمْ مَا أَشَاءُ، وَأَسْتَعْبِدُهُمْ بِمَا أُرِيدُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَرِضَ فِي حُكْمِي، وَلَا أَنْ يُخَالِفَ أَمْرِي، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ طَاعَتِي وَالتَّسْلِيمُ لِحُكْمِي. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى}، يَعْنِي بـِ" الْمَوْعِظَةِ "التَّذْكِيرَ وَالتَّخْوِيفَ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِهِ فِي آيِ الْقُرْآنِ، وَأَوْعَدَهُمْ عَلَى أَكْلِهِمُ الرِّبَا مِنَ الْعِقَابِ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَمَنْ جَاءَهُ ذَلِكَ، " فَانْتَهَى "عَنْ أَكْلِ الرِّبَا وَارْتَدَعَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَانْزَجَرَ عَنْه "فَلَهُ مَا سَلَفَ"، يَعْنِي: مَا أَكَلَ، وَأَخَذَ فَمَضَى، قَبْلَ مَجِيءِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}، يَعْنِي: وَأَمْرُ آكِلِهِ بَعْدَ مَجِيئِهِ الْمَوْعِظَةَ مِنْ رَبِّهِ وَالتَّحْرِيمَ، وَبَعْدَ انْتِهَاءِ آكِلِهِ عَنْ أَكْلِهِ، إِلَى اللَّهِ فِي عِصْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، إِنْ شَاءَ عَصَمَهُ عَنْ أَكْلِهِ وَثَبَّتَهُ فِي انْتِهَائِهِ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ خَذَلَهُ عَنْ ذَلِكَ "مَنْ عَادَ"، يَقُولُ: وَمَنْ عَادَ لِأَكْلِ الرِّبَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَقَالَ مَا كَانَ يَقُولُهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْمَوْعِظَةِ مِنَ اللَّهِ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، يَعْنِي: فَفَاعِلُو ذَلِكَ وَقَائِلُوهُ هُمْ أَهْلُ النَّارِ، يَعْنِي نَارَ جَهَنَّمَ، فِيهَا خَالِدُونَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}، أَمَّا "الْمَوْعِظَة" فَالْقُرْآنُ، وَأَمَّا " مَا سَلَفَ"، فَلَهُ مَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [276] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}، يَنْقُصُ اللَّهُ الرِّبَا فَيُذْهِبَهُ، كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}، قَالَ: يُنْقِصُ. وَهَذَا نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُل). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَعْنِي أَنَّهُ يُضَاعِفُ أَجْرَهَا، يَرُبُّهَا وَيُنَمِّيهَا لَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الرِّبَا" قَبْلُ " وَالْإِرْبَاءِ"، وَمَا أَصْلُهُ، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ إِعَادَتِهِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ إِرْبَاءُ اللَّهِ الصَّدَقَاتِ؟ قِيلَ: إِضْعَافُهُ الْأَجْرَ لِرَبِّهَا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 261]، وَكَمَا قَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 245]، وَكَمَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 104]، وَ(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات). حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَالِدٍ الْأَقْطَعُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّب). حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَيْحَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَة قالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا الطَّيِّبَ، وَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ طَيِّبٍ تَقَبَّلَهَا اللَّهُ مِنْهُ، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ وَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَصَدَّقُ بِاللُّقْمَةِ فَتَرْبُو فِي يَدِ اللَّهِ أَوْ قَالَ: (فِي كَفِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ، فَتَصَدَّقُوا). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدَ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ يُونُسَ عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا، وَاللَّهُ يُرَبِّي لِأَحَدِكُمْ لُقْمَتَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ وَفَصِيلَهُ، حَتَّى يَوَافَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُصِرٍّ عَلَى كُفْرٍ بِرَبِّهِ، مُقِيمٍ عَلَيْهِ، مُسْتَحِلٍّ أَكْلَ الرِّبَا وَإِطْعَامَهُ، " أَثِيمٌ"، مُتَمَادٍ فِي الْإِثْمِ، فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَالْحَرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِيهِ، لَا يَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَرْعَوِي عَنْهُ، وَلَا يَتَّعِظُ بِمَوْعِظَةِ رَبِّهِ الَّتِي وَعَظَهُ بِهَا فِي تَنْزِيلِهِ وَآيِ كِتَابِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [277] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ مِنْتَحْرِيمِ الرِّبَا وَأَكْلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ شَرَائِعِ دِينِهِ "وَعَمِلُوا الصَّالِحَات" الَّتِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، وَالَّتِي نَدَبَهُمْ إِلَيْهَا "وَأَقَامُوا الصَّلَاة" الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا، وَأَدَّوْهَا بِسُنَنِهَا "وَآتَوُا الزَّكَاة" الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، بَعْدَ الَّذِي سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا، قَبْلَ مَجِيءِ الْمَوْعِظَةِ فِيهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ "لَهُمْ أَجْرُهُمْ"، يَعْنِي ثَوَابَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَصَدَقَتِهِم" عِنْدَ رَبِّهِمْ "يَوْمَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي مَعَادِهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِم" يَوْمَئِذٍ مِنْ عِقَابِهِ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَكَفْرِهِمْ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ أَكْلِ مَا كَانُوا أَكَلُوا مِنَ الرِّبَا، بِمَا كَانَ مِنْ إِنَابَتِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَجِيئِهِمُ الْمَوْعِظَةُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ "وَلَا هُمْ يَحْزَنُون" عَلَى تَرْكِهِمْ مَا كَانُوا تَرَكُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَالْعَمَلِ بِهِ، إِذَا عَايَنُوا جَزِيلَ ثَوَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ مَا تَرَكُوا مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَوَصَلُوا إِلَى مَا وُعِدُوا عَلَى تَرْكِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [278] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ {اتَّقَوُا اللَّهَ}، يَقُولُ: خَافُوا اللَّهَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَاتَّقَوْهُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْه" وَذَرُوا"، يَعْنِي: وَدَعُوا {مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، يَقُولُ: اتْرُكُوا طَلَبَ مَا بَقِيَ لَكُمْ مِنْ فَضْلٍ عَلَى رُءُوسِ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي كَانَتْ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُرْبُوا عَلَيْهَا {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُحَقِّقِينَ إِيمَانَكُمْ قَوْلًا وَتَصْدِيقَكُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ.. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا وَلَهُمْ عَلَى قَوْمٍ أَمْوَالٌ مِنْ رِبًا كَانُوا أَرْبَوْهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا قَدْ قَبَضُوا بَعْضَهُ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ بَعْضٌ، فَعَفَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ عَمَّا كَانُوا قَدْ قَبَضُوهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ اقْتِضَاءَ مَا بَقِيَ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} "إِلَى: (وَلَا تَظْلِمُونَ)، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٍ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا إِلَى أُنَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ مِنْ بَنِي عَمْرٍو وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنُ عُمَيْرٍ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {ذَرُوا مَا بَقِيَ} مِنْ فَضْلٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ " مِنَ الرِّبَا". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ. فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ، اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ يُرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ. فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرُو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبِي بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أُسِيدٍ، فَكَتَبَ عَتَّابٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، إِلَى " وَلَا تَظْلِمُونَ". فَكُتِبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّابٍ وَقَالَ: (إِنْ رَضُوا وَإِلَّا فَآذِنْهُمْ بِحَرْبٍ) وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلَهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، قَالَ: كَانُوا يَأْخُذُونَ الرِّبَا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَسْعُودٌ وَعَبْدُ يَالَيْلَ وَحَبِيبٌ وَرَبِيعَةُ، بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَهُمُ الَّذِينَ كَانَ لَهُمُ الرِّبَا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَأَسْلَمَ عَبْدُ يَالَيْلَ وَحَبِيبٌ وَرَبِيعَةُ وَهِلَالٌ وَمَسْعُودٌ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْبِرُ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، قَالَ: كَانَ رِبًا يَتَبَايَعُونَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا أُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا رُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) فَإِنْ لَمْ تَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا. وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (فَأْذَنُوْا "بِقَصْرِ الْأَلِفِ مِن" فَآذَنُوا)، وَفَتْحِ ذَالِهَا، بِمَعْنَى كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَإِذْنٍ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: (فَآذِنُوا) بِمَدِّ الْأَلِفِ مِنْ قَوْلِهِ: (فَأَذِنُوا) وَكَسْرِ ذَالِهَا، بِمَعْنَى فَآذِنُوا غَيْرَكُمْ، أَعْلِمُوهُمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِأَنَّكُمْ عَلَى حَرْبِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (فَأْذَنُوا) بِقَصْرِ أَلِفِهَا وَفَتَحِ ذَالِهَا، بِمَعْنَى اعْلَمُوا ذَلِكَ وَاسْتَيْقَنُوهُ، وَكُونُوا عَلَى إِذَنٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى مَنْ أَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ الَّذِي لَا يُقَرُّ عَلَى الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَأَنْيُقْتَلَ الْمُرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِمِنْهُمْ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا أَنْ يُرَاجِعَ الْإِسْلَامَ، آذَنَهُ الْمُشْرِكُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى حَرْبِهِ أَوْ لَمْ يُؤْذِنُوهُ. فَإِذْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَانَ مُشْرِكًا مُقِيمًا عَلَى شِرْكِهِ الَّذِي لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ كَانَ مُسَلَّمًا فَارْتَدَّ وَأَذِنَ بِحَرْبٍ. فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ، فَإِنَّمَا نُبَذَ إِلَيْهِ بِحَرْبٍ، لَا أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِيذَانِ بِهَا إِنْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنْ كَانَ إِلَيْهِ فَأَقَامَ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا مُسْتَحِلًّا لَهُ وَلَمْ يُؤْذَنَ الْمُسْلِمُونَ بِالْحَرْبِ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ حَرْبُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمِهِ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَالَيْنِ، فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ الْمَأْذُونُ بِالْحَرْبِ لَا الْآذِنُ بِهَا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزَعُ عَنْهُ، فَحَقٌّ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنَّ نَزَعَ، وَإِلَّا ضُرِبَ عُنُقُهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: (خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْقَتْلِ كَمَا تَسْمَعُونَ، فَجَعَلَهُمْ بَهْرَجًا أَيْنَمَا ثُقِفُوا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَلِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، أَوْعَدَ الْآكِلَ الرِّبَا بِالْقَتْلِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَاسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} إِيذَانٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْحَرْبِ وَالْقَتْلِ، لَا أَمْرٌ لَهُمْ بِإِيذَانِ غَيْرِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: (إِنْ تُبْتُمْ) فَتَرَكْتُمْ أَكْلَ الرِّبَا وَأَنَبْتُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} مِنَ الدِّيُونِ الَّتِي لَكُمْ عَلَى النَّاسِ، دُونَ الزِّيَادَةِ الَّتِي أَحْدَثْتُمُوهَا عَلَى ذَلِكَ رِبًا مِنْكُمْ، كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}، وَالْمَالُ الَّذِي لَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الرِّجَالِ، جُعِلَ لَهُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَمَّا الرِّبْحُ وَالْفَضْلُ فَلَيْسَ لَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَضَعَ اللَّهُ الرِّبَا، وَجَعَلَ لَهُمْ رُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّ {تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}، قَالَ: مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دَيْنٍ، فَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا رُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَزْدَادُوا عَلَيْهِ شَيْئًا. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}" الَّذِي أَسْلَفْتُمْ، وَسَقَطَ الرِّبَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ: (أَلَا إِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَأَوَّلُ رِبًا أَبْتَدِئُ بِهِ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ). حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: (إِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [279] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (لَا تَظْلِمُونَ) بِأَخْذِكُمْ رُءُوسَ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي كَانَتْ لَكُمْ قَبْلَ الْإِرْبَاءِ عَلَى غُرَمَائِكُمْ مِنْهُمْ، دُونَ أَرْبَاحِهَا الَّتِي زِدْتُمُوهَا رِبًا عَلَى مَنْ أَخَذْتُمْ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ غُرَمَائِكُمْ، فَتَأْخُذُوا مِنْهُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ أَخْذُهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ قَبْل (وَلَا تُظْلِمُونَ)، يَقُولُ: وَلَا الْغَرِيمُ الَّذِي يُعْطِيكُمْ ذَلِكَ دُونَ الرِّبَا الَّذِي كُنْتُمْ أَلْزَمْتُمُوهُ مِنْ أَجْلِ الزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ، يَبْخَسُكُمْ حَقًّا لَكُمْ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُكُمُوهُ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى رُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَكُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ بِمَنْعِهِ إِيَّاكُمْ ذَلِكَ ظَالِمًا لَكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ}، فَتُرْبُونَ، "وَلَا تَظْلِمُون" فَتَنْقُصُونَ. وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}، قَالَ: لَا تَنْقُصُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَلَا تَأْخُذُونَ بَاطِلًا لَا يَحِلُّ لَكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: (وَإِنْ كَانَ) مِمَّنْ تَقْبِضُونَ مِنْهُ مِنْ غُرَمَائِكُمْ رُءُوسَ أَمْوَالِكُم" ذُو عُسْرَةٍ " يَعْنِي: مُعْسِرًا بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي كَانَتْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْإِرْبَاءِ، فَأَنْظِرُوهُمْ إِلَى مَيْسِرَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (ذُو عُسْرَةٍ)، مَرْفُوعٌ بـِ (كَانَ)، فَالْخَبَرُ مَتْرُوكٌ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنَّمَا صُلُحَ تَرْكُ خَبَرُهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّكِرَاتِ تُضْمِرُ لَهَا الْعَرَبُ أَخْبَارَهَا، وَلَوْ وُجِّهَت" كَانَ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُكْتَفِي بِنَفَسِهِ التَّامِّ، لَكَانَ وَجْهًا صَحِيحًا، وَلَمْ يَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ حِينَئِذٍ إِلَى خَبَرٍ. فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ عِنْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ مِنْ غُرَمَائِكُمْ بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ، فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: {وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ}، بِمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ ذَا عُسْرَةٍ " فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ". وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَرَبِيَّةِ جَائِزًا فَغَيْرُ جَائِزٍ الْقِرَاءَةُ بِهِ عِنْدَنَا، لِخِلَافِهِ خُطُوطَ مَصَاحِفَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُنْظِرُوهُ إِلَى مَيْسَرَةٍ، كَمَا قَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 196]، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ رَفَعِ مَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ، فَأَغْنَى عَنْ تَكْرِيرِهِ. وَ(الْمُيَسَّرَةُ)، الْمُفْعِلَةُ مِنَ (الْيُسْرِ)، مِثْل "الْمَرْحَمَةِ" وَ"وَالْمَشْأَمَةِ". وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ كَانَ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُنْظِرُوهُ حَتَّى يُوسِرَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَكُمْ، فَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الْيُسْرِ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، قَالَ: نَـزَلَتْ فِي الرِّبَا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَامٌ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ رَجُلًا إِلَى شُرَيْحٍ قَالَ: فَقَضَى عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ: إِنَّهُ مُعْسِرٌ، وَاللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} قَالَ: فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الرِّبَا! وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 58] وَلَا يَأْمُرُنَا اللَّهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ يُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، قَالَ: ذَلِكَ فِي الرِّبَا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَكَانَ يَأْتِيهِ وَيَقُومُ عَلَى بَابِهِ وَيَقُولُ: أَيْ فُلَانُ، إِنْ كُنْتَ مُوسِرًا فَأَدِّ، وَإِنْ كُنْتَ مُعْسِرًا فَإِلَى مَيْسَرَةٍ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى شُرَيْحٍ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنَّهُ مُعْسِرٌ، إِنَّهُ مُعْسِرٌ!! قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُكَلِّمُهُ فِي مَحْبُوسٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنَّ الرِّبَا كَانَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} " وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، فَمَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُنَا بِأَمْرٍ ثُمَّ يُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ، أَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، قَالَ: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ بِرَأْسِ مَالِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، إِنَّمَا أَمَرَ فِي الرِّبَا أَنْ يُنْظُرَ الْمُعْسِرُ، وَلَيْسَتِ النَّظِرَةُ فِي الْأَمَانَةِ، وَلَكِنْ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ إِلَى أَهْلِهَا. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} "بِرَأْسِ الْمَال" إِلَى مَيْسَرَةٍ"، يَقُولُ: إِلَى غِنًى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، هَذَا فِي شَأْنِ الرِّبَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعَتُ الضَّحَّاكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، هَذَا فِي شَأْنِ الرِّبَا، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِهَا يَتَبَايَعُونَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، أُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا رُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، يَعْنِي الْمَطْلُوبَ. حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، قَالَ: الْمَوْتُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، قَالَ: هَذَا فِي الرِّبَا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، قَالَ: إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى فُرْقَةٍ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، قَالَ: ذَلِكَ فِي الرِّبَا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْدَلٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، قَالَ: يُؤَخِّرُهُ، وَلَا يَزِدْ عَلَيْهِ. وَكَانَ إِذَا حَلَّ دَيْنُ أَحَدِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُعْطِيهِ، زَادَ عَلَيْهِ وَأَخَّرَهُ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْدَلٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} " قَالَ: يُؤَخِّرُهُ وَلَا يَزِدْ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّمَنْ كَانَ لَهُ قِبَلَ رَجُلٍ مُعْسِرٍ حَقٌّمِنْ أَيِّ وُجْهَةٍ كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ دَيْنٍ حَلَّالٍ أَوْ رِبًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرُ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: مَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ عَلَى مُسْلِمٍ، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ لَهُ دَيْنٌ عَلَى أَخِيهِ يَعْلَمُ مِنْهُ عُسْرَةً أَنْ يَسْجُنَهُ، وَلَا يَطْلُبَهُ حَتَّى يُيَسِّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ النَّظْرَةَ فِي الْحَلَالِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتِ الدُّيُونُ عَلَى ذَلِكَ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} قَالَ: نَـزَلَتْ فِي الدَّيْنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ غُرَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا أَسْلَمُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ قَدْ أَرْبَوْا فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضُوهَا مِنْهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِوَضْعِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا، وَبِقَبْضِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ، مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ غُرَمَائِهِمْ مُوسِرًا، أَوْ إِنْظَارِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعْسِرًا بِرُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مَيْسَرَتِهِمْ. فَذَلِكَحُكْمُ كُلِّ مِنْ أَسْلَمَ وَلَهُ رِبًا قَدْ أَرْبَى عَلَى غَرِيمٍ لَهُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُبْطِلُ عَنْ غَرِيمِهِ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ الرِّبَا، وَيُلْزِمُهُ أَدَاءَ رَأْسِ مَالِهِ- الَّذِي كَانَ أَخْذَ مِنْهُ، أَوْ لَزِمَهُ مِنْ قَبْلِ الْإِرْبَاءِ- إِلَيْهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، كَانَ مُنْظِرًا بِرَأْسِ مَالِ صَاحِبِهِ إِلَى مَيْسَرَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ مُبْطِلًا عَنْهُ. غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ نَـزَلَتْ فِيمَنْ ذَكَرْنَا، وَإِيَّاهُمْ عَنَى بِهَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إِنْظَارِهِ الْمُعْسِرَ بِرَأْسِ مَالِ الْمُرْبِي بَعْدَ بُطُولِ الرِّبَا عَنْهُ حُكْمٌ وَاجِبٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِرَجُلٍ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِقَضَائِهِ مُعْسِرٌ فِي أَنَّهُ مَنْظَرٌ إِلَى مَيْسَرَتِهِ، لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ ذِي دَيْنٍ، فِي مَالِ غَرِيمِهِ، وَعَلَى غَرِيمِهِ قَضَاؤُهُ مِنْهُ- لَا فِي رَقَبَتِهِ. فَإِذَا عَدِمَ مَالَهُ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ بِحَبْسٍ وَلَا بَيْعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مَالَ رَبِّ الدَّيْنِ لَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي رَقَبَةِ غَرِيمِهِ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ فِي مَالٍ لَهُ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ يَكُنْ فِي مَالٍ لَهُ بِعَيْنِهِ، فَمَتَى بَطُلَ ذَلِكَ الْمَالُ وَعُدِمَ فَقَدْ بَطُلَ دَيْنُ رَبِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ مَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَيَكُونُ فِي رَقَبَتِهِ، فَإِنْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَمَتَى عَدِمَتْ نَفْسُهُ فَقَدْ بَطُلَ دَيْنُ رَبِّ الدَّيْنِ، وَإِنَّ خَلَّفَ الْغَرِيمُ وَإِنْظَاره إِلَى الْمَيْسَرَة وَفَاءً بِحَقِّهِ وَأَضْعَافَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا، إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَنَّ دَيْنَ رَبِّ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ غَرِيمِهِ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا عَدِمَ مَالَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدِمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْهُ حَقَّ صَاحِبِهِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى رَقَبَتِهِ سَبِيلٌ، لَمْ يَكُنْ إِلَى حَبْسِهِ وَهُوَ مَعْدُومٌ بِحَقِّهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعِهِ حَقًّا، لَهُ إِلَى قَضَائِهِ سَبِيلٌ، فَيُعَاقَبُ بِمْطْلِهِ إِيَّاهُ بِالْحَبْسِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [280] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ وَعَزَّ بِذَلِكَ: وَأَنَّ تَتَصَدَّقُوا بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ عَلَى هَذَا الْمُعْسِرِ، "خَيْرٌ لَكُم" أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ أَنْ تُنْظِرُوهُ إِلَى مَيْسَرَتِهِ، لِتَقْبِضُوا رُءُوسَ أَمْوَالِكُمْ مِنْهُ إِذَا أَيْسَرَ "إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون" مَوْضِعَ الْفَضْلِ فِي الصَّدَقَةِ، وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ لِمَنْ وَضَعَ عَنْ غَرِيمِهِ الْمُعْسِرِ دَيْنَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنْهُم" خَيْرٌ لَكُمْ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ "}، وَالْمَالُ الَّذِي لَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الرِّجَالِ جُعِلَ لَهُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِهِمْ حِينَ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَأَمَّا الرِّبْحُ وَالْفَضْلُ فَلَيْسَ لَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا " وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ"، يَقُولُ: أَنْ تَصَدَّقُوا بِأَصْلِ الْمَالِ، خَيْرٌ لَكُمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا}، أَيْ بِرَأْسِ الْمَالِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قَالَ: مِنْ رُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: أَنْ تَصَدَّقُوا بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا بِهِ عَلَى الْمُعْسِرِ خَيْرٌ لَكُمْ- نَحْوَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ عَلَى الْفَقِيرِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَتَصَدَّقَ بِهِ الْعَبَّاسُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، يَقُولُ: وَإِنْ تَصَدَّقْتَ عَلَيْهِ بِرَأْسِ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، يَعْنِي: عَلَى الْمُعْسِرِ، فَأَمَّا الْمُوسِرُ فَلَا وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ رَأْسُ الْمَالِ، وَالْمُعْسِرُ الْأَخْذُ مِنْهُ حَلَالٌ وَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ نَظِرَةٍ إِلَى مَيْسَرَةٍ. فَاخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّدَقَةَ عَلَى النَّظَّارَةِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: مِنَ النَّظِرَةِ " إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ". حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، وَالنَّظْرَةُ وَاجِبَةٌ، وَخَيْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الصَّدَقَةُ عَلَى النَّظْرَةِ، وَالصَّدَقَةُ لِكُلِّ مُعْسِرٍ، فَأَمَّا الْمُوسِرُ فَلَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْمُعْسِرِ بِرُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ" لِأَنَّهُ يَلِي ذِكْرَ حُكْمِهِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ. وَإِلْحَاقُهُ بِالَّذِي يَلِيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالَّذِي بَعْدَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيأَحْكَامِ الرِّبَا، هُنَّ آخَرُ آيَاتٍ نَـزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: (أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: كَانَآخَرُ مَا نَـزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا، فَدَعَوَا الرِّبَا وَالرِّيبَة). حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ: (أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّنَا نَأْمُرُكُمْ بِأَمْرٍ لَا يَصْلُحُ لَكُمْ، وَمَا أَدْرِي لَعَلَّنَا نَنْهَاكُمْ عَنْ أَمْرٍ يَصْلُحُ لَكُمْ، وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ تَنْـزِيلًا آيَاتُ الرِّبَا، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا، فَدَعُوا مَا يَرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكُمْ). حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا قُبَيْصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (آخَرُ مَا أُنْـزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّا لَنَأْمُرُ بِالشَّيْءِ لَا نَدْرِي لَعَلَّ بِهِ بَأْسًا، وَنَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ لَعَلَّهُ لَيْسَ بِهِ بَأْس).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [281] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًاآخِرُ آيَةٍ نَـزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَمِيلَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَـزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}... " الْآيَةَ، فَهِيَ آخِرُ آيَةٍ مِنَ الْكِتَابِ أُنْـزِلَتْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَـزَلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَـزَلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَمِيلَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ آخِرُ آيَةٍ نَـزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُونَ «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ بَعْدَهَا تِسْعَ لَيَالٍ، وَبُدِئَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ». حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاحْذَرُوا أَيُّهَا النَّاسُ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ " فَتَلْقَوْنَهُ فِيهِ، أَنْ تَرِدُوا عَلَيْهِ بِسَيِّئَاتٍ تُهْلِكُكُمْ، أَوْ بِمُخْزِيَاتٍ تُخْزِيكُمْ، أَوْ بِفَاضِحَاتٍ تَفْضَحُكُمْ، فَتَهْتِكُ أَسْتَارَكُمْ، أَوْ بِمُوبِقَاتٍ تُوبِقُكُمْ، فَتُوجِبُ لَكُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، وَإِنَّهُ يَوْمُ مُجَازَاةٍ بِالْأَعْمَالِ، لَا يَوْمُ اسْتِعْتَابٍ، وَلَا يَوْمُ اسْتِقَالَةٍ وَتَوْبَةٍ وَإِنَابَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَوْمُ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَمُحَاسَبَةٍ، تُوَفَّى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ أَجْرَهَا عَلَى مَا قَدَّمَتْ وَاكْتَسَبَتْ مِنْ سَيِّئٍ وَصَالِحٍ، لَا تُغَادِرُ فِيهِ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ إِلَّا أُحْضِرَتْ، فَوُفِّيَتْ جَزَاءَهَا بِالْعَدْلِ مِنْ رَبِّهَا، وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. وَكَيْفَ يُظْلَمُ مَنْ جُوزِيَ بِالْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا، وَبِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا؟! كَلَّا بَلْ عَدَلَ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُسِيءُ، وَتَكَرَّمَ عَلَيْكَ فَأَفْضَلَ وَأَسْبَغَ أَيُّهَا الْمُحْسِنُ، فَاتَّقَى امْرُؤٌ رَبَّهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ حَذَرَهُ، وَرَاقَبَهُ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِ يَوْمُهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَوْزَارِ ظَهْرُهُ ثَقِيلٌ، وَمِنْ صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ خَفِيفٌ، فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَذَّرَ فَأَعْذَرَ، وَوَعَظَ فَأَبْلَغَ.
|